الإرادة المنفردة

 

الارادة المنفردة كمصدر من مصادر الإلتزام

مقدمة :

من المجمع عليه تشريعا وفقها وقضاء أن الإرادة المنفردة تستطيع أن تقضي على الحق عن طريق النزول،كما تستطيع أن تعترف بوجود حق عن طريق الإقرار،غير أن الذي يهمنا هو بحت الإرادة المنفردة بوصفها مصدر للالتزام أي باعتبارها تصرفا منشئا للالتزام أي مدى استطاعة الشخص بإرادته المنفردة أن يخلق التزاما في ذمته بحيث تكون الإرادة المنفردة مصدرا عاما للالتزام شأنها شأن العقد وهذا لا يرجع إلى الأهمية العملية لهذا المصدر مقارنة بمصادر أخرى إنما نتيجة للترابط الوثيق بينه وبين العقد لكونهما مصدريين إراديين.

إلا أن اعتبار الإرادة المنفردة مصدرا للالتزام يعرف جدلا فقهيا وتشريعيا، فهناك من أنكر على أن الإرادة مصدرا للالتزام باعتبار أن الإرادة المنفردة لا تستطيع تحقيق هذه الغاية إلا إذا اقترنت بإرادة ثانية وهذا هو الموقف الذي تبناه الفقه الفرنسي قديما.

وهناك من اعتبر أن الإرادة المنفردة مصدرا عاما للالتزام وهذا ما تبناه الفقه الألماني، غير أن الفقه الحديث في فرنسا تبني موقفا وسطا بين التوجهين السابقين ومقتضى هذا الموقف أن العقد هو المصدر الأول للالتزام والإرادة المنفردة هي مصدر ثانوي أو استثنائي، وهذا ما تبناه أيضا المشرع المغربي، فبالرجوع إلى نصوص قانون الالتزامات والعقود وخاصة المادة الأولى منه يظهر أن المشرع اعتبر العقد هو المصدر الأول للالتزامات والإرادة المنفردة هي مصدر ثانوي.

ادن فما هي مميزات الإرادة المنفردة؟ وماهي أهم تطبيقات الإرادة المنفردة؟

وللإجابة عن هذه التساؤلات سوف نعتمد التصميم التالي.


 المطلب الأول : خصائص الإرادة المنفردة وأثارها

تتميز الإرادة المنفردة أو التصرف الانفرادي بمجموعة من الخصائص التي تميزها عن غيرها من مصادر الالتزام الأخرى باعتبارها تصرف قانوني يصدر عن شخص بهدف احدات  أثر قانوني ومن دون حاجة إلى إرادة ثانية تتوافق معها، وبهذا فقد تترتب عنها مجموعة من الأتار القانونية المتنوعة.

الفقرة الأولى : خصائص الإرادة المنفردة.

للإرادة المنفردة خصائص ومميزات متعددة تستقل بها دون باقي مصادر الالتزام الأخرى وسنتطرق إليها على الشكل التالي :

·       أولا : الإرادة المنفردة تصرف إرادي.

حيت أنه يكون بإرادة منفردة واحدة دون أن يتوقف ذلك على إرادة ثانية،كما هو عليه الحال بالنسبة للعقد، ويترتب عن ذلك أن التصرف بإرادة منفردة يتميز عن العقد الملزم لجانب واحد ذلك أن هذا العقد يحتاج لإرادتين،أما تصرف الإرادة المنفردة فيكفي فيه توفر توافر إرادة واحدة وهي إرادة صاحبه[1]

·       ثانيا : تطبيق أحكام العقد على الإرادة المنفردة باستثناء ماهو مستلزم بوجود إرادتين.

وإستناء إلى ذلك يجب أن تتوفر في المتصرف بإرادة منفردة أهلية الأداء تحت طائلة بطلان تصرفه أو قابليته للإبطال تبعا لما إذا كانت الأهلية منعدمة أو ناقصة.

وبالتالي يجب على هاته الإرادة أن تصدر بشكل صحيح وخاليا من العيوب، وبالرجوع الى قواعد الإرادة المنفردة من حيت الأركان نجد أنها لا تستدعي كعيب من عيوب الإرادة أن يكون الغلط مشتركا كما هو عليه الأمر في العقد[2]

كما لا يشترط التدليس أو الإكراه الواقع على المتصرف بإرادة منفردة أن يكون المتصرف على علم به،كما يجب أن يكون الباعث على التصرف بإرادة منفردة مشروعا وإلا كان التصرف باطلا ولكن لا يشترط علم المتصرف إليه بالباعث غير المشروع حتى يترتب البطلان كما يجب أيضا أن يكون لإلتزام المتصرف بإرادة منفردة محل تتوفر شروط محل العقد.

وقد تطرقت بعض التشريعات لهذه المسألة كما هو الشأن بالنسبة للقانون المدني الجزائري الذي نص على النقطة بمقتضى  المادة 123 مكرر التي ثم تعديلها بواسطة القانون رقم 10.05 السالف الذكر حيث جاء فيها "يسري على التصرف بإرادة منفردة ما يسري على العقد من أحكام بإستثناء أحكام القبول[3]

·       ثالثا : وقت انعقاد التصرف.

أما فيما يتعلق بالوقت الذي ينعقد فيه ىالتصرف الناجم عن الإرادة المنفردة فيجب التمييز بين حالتين حسب الأستاذ مأمون الكز بري بين ما إذا كان التعبير عن الإرادة موجها

 للجمهور أو أن يكون موجها للشخص معين أو محدد.

في الحالة الأولى كما في الوعد بجائزة الموجه للجمهور ينعقد التصرف وينتج أثره من وقت صدور التعبير (التعبير عن الإرادة)

أما في الحالة الثانية كما في الإيجاب الملزم وهو الذي يجب إعلانه لشخص معين حتى يتحقق أثره القانوني،فإن التصرف ينعقد في الوقت الذي يصل فيه التعبير عن الإرادة إلى علم من وجه إليه وهذا ما قررته المادة 18 من قانون الالتزامات والعقود المغربي."الالتزامات الصادرة من طرف واحد تلزم من صدرت منه بمجرد وصولها إلى علم الملتزم له"[4]

الفقرة الثانية : آثار الإرادة المنفردة.

تعترف أغلب القوانين الوضعية ببعض الأثار القانونية التي تترتب عن التصرف بإرادة منفردة وسنتناول أهم هذه الآثار على النحو التالي :

 

·       أولا : أثر التخلي.

وهذا الأثر يظهر حينما يقوم شخص بإرادته المنفردة بالتخلي عن حق من حقوقه أو يتنازل عن حق شخصي[5]

وقد نص المشرع المغربي على العديد من الحالات التي يمكن فيها التنازل عن الحق الشخصي، من قبيل ذلك تنازل الوكيل عن وكالته تطبيقا للفصل 929 من قانون الالتزامات والعقود : "تنتهي الوكالة : أولا بتنفيذ العملية التي أعطيت من أجلها......رابعا بتنازل الوكيل عن وكالته..."

·       ثانيا : الأثر المكشف.

ويعبر عنه أيضا بالأثر المظهر للحق الموجود بشكل مسبق فنشير أساسا إلى الإقرار والاعتراف بدين والاعتراف بطفل، فالإقرار هواعتراف شخص بواقعة من شأنها أن تنتج أثار قانونية في حقه مع قصده أن تعتبر هذه الواقعة صحيحة[6]

·       ثالثا : الأثر الناقل.

من خصائص هذا الأثر قيام شخص بإرادته المنفردة بنقل حق أو ملكية إلى شخص أو أشخاص آخرين، مثال ذلك التصرف الذي من خلاله الوصي من تاريخ وفاته كل أو بعض من حقوقه إلى الموصى له.

ويضيف الفقه الفرنسي إلى هذا المثال التصرف المنشى لشركة شخص واحد حيث أنه من خلال هذا التصرف يلتزم منشئ الشركة بأن ينقل إليها الأموال  التي سيتم تخصيصها للمقاولة أو استغلالها[7]

وعموما يمكن القول أن أثار الإرادة المنفردة تتمثل في أثرين هامين :

الأول هو كون محدث هذا التصرف يصبح غير حر بشكل مطلق في الرجوع عن الوضعية القانونية التي أنشأها بإرادته المنفردة، أي أنه لا يجوز للمتصرف الرجوع في تصرفه هذا  ما لم يقضي القانون بغير ذلك.

 

والثاني يتمثل فيما يعرف برجعية القبول الصادر عن الموجه إليه التصرف المنفرد حيت ترجع ولادة ذلك الحق إلى تاريخ أو لحظة التعبير عن الإرادة من قبل المعلن عنها أي الملتزم بإرادة المنفردة[8]

المطلب الثاني : تطبيقات الإرادة المنفردة.

هناك حالات متفرقة تكون فيها الإرادة المنفردة مصدر للالتزام وردت في نصوص مختلفة في قانون الالتزامات والعقود وغيرها من القوانين مثال الوصية،السندات لأمر أو لحاملها في القانون التجاري،والإيجاب الملزم  الذي نصت عليه المادة 29 من قانون الالتزامات والعقود حيت نرى مصدر الالتزام فيه إرادة الموجب المنفردة والوعد بجائزة الذي نصت عليه المواد15-16-17 من قانون الالتزامات والعقود، ونظرا لأهمية هذين النوعين سنتطرق إليهما بنوع من  التفصيل في فقرتين.

الفقرة الأولى : الوعد بجائزة الموجه إلى الجمهور.

يعرف الوعد بجائزة بأنه إعلان موجه إلى الجمهور عن التزام بإعطاء جائزة عن عمل يقوم به شخص غير معين في ذاتها [9]مثال ذلك أن يوجه شخص إلى الجمهور وعدا بجائزة لمن يعثر على شيء مفقود أولمن يكشف معلومات عن جريمة ارتكبت،ولمن يكشف عن دواء لمرض معين [10]وقد اختلفت الأنظار القانونية في تحليل ماهية الوعد بجائزة وتحديد طبيعته بمعنى هل هو معاوضة أم تبرع؟

والنظر الصحيح إلى حد تعبير الأستاذ الكز بري أنه ليس تبرعا دائما ولا معاوضة دائما بل تختلف طبيعته بحسب الأحوال فهو معاوضة إذا كان النشاط الذي يبدله الغير لاستحقاق الجائزة تعود فائدته على  الواعد،كما في الوعد بجائزة لمن يعثر على شيء مفقود،وهو تبرع إذا كان النشاط الذي يبذله الغير لاستحقاق الجائزة تعود فائدته عليه وحده دون الواعد كوعد بجائزة لمن يقدم أفضل بحت علمي في موضوع معين.

ويتميز الوعد بجائزة بعدة مميزات منها أنه تعبير موجه إلى شخص غير معين من الجمهور،والوعد بجائزة متى صدر مستوفيا شروطه،يحتاج انعقاده إلى أي تعبير يصدر من شخص آخر.

والوعد بجائزة  هو نوع من التعابير الملقاة أي التي تنتج أثرها القانوني بمجرد صدورها عن صاحبها ودون اشتراط وصولها إلى علم من وجهت إليه[11]

وعرضت المادة 15 من قانون الالتزامات  والعقود لشروط الوعد بجائزة فقالت"الوعد عن طريق الإعلانات أو أية وسيلة أخرى من وسائل الإشهار بمنح جائزة لمن يعثر على شيء ضائع أو يقوم بأي عمل أخر يعتبر مقبولا ممن يأتي بالشيء أو يقوم بالعمل ولو فعل ذلك وهو جاهل الوعد. وفي هذه الحالة،يلتزم الواعد من جانبه بإنجاز ما وعد به."

ففي في ضوء هذا النص يتطلب الوعد بجائزة توافر الشروط التالية :

·       أولا : من حيت جدية الإرادة

فمن جهة أولى يجب أن تصدر من الواعد إرادة باتة وجدية تقصد الالتزام : فمن أجل الاعتداد بالوعد بالجائزة ينبغي أن تكون إرادة الواعد جدية بقصد الالتزام.مما يعني أن الشخص الذي يعلن عن جائزة لفائدة من قام باكتشاف عيب في بضاعة يقوم هو بصنعها، لا تكون إرادته في مثل هذه الحالة جدية تهدف إلى إنشاء الالتزام في ذمته[12]

·       ثانيا : من حيت صحة الإرادة .

ومن جهة ثانية فإن أن تتوافر الأهلية في الواعد.وأحكام الأهلية في الوعد بجائزة هي ذاتها أحكام أهلية التعاقد [13]وأن تكون إرادة الواعد خالية من عيوب الرضي إضافة إلى ضرورة توفر المحل والسبب، فمحل التزام الواعد هو إعطاء الجائزة التي وعد بها، ويشترط في الجائزة نفس الشروط التي يتطلبها القانون في محل الإ

الالتزام من تعيين وإمكان ومشروعية وسبب التزام الواعد هو العمل الذي وضعت الجائزة من أجله.

·       ثالثا : من حيت التعبير عن الإرادة

يتطلب الفصل 15 من قانون الالتزامات والعقود شرطا يتميز به الوعد بجائزة : حيت يجب أن يوجه الوعد إلى الجمهور فإذا وجه إلى شخص معين خرج عن نطاق الوعد بجائزة بالمعنى المقصود في هذا المقام وأصبح إيجابا يجب أن يقترن به قبول[14]

ووجوب توجيه الوعد إلى الجمهور يتضمن صدور أن يتم  التعبير عن الإرادة على نحو علني فيمكن القيام بذلك عن طريق وسائل الإعلام،كالصحافة والإذاعة أو عن طريق النشرات والمناداة في الأماكن العامة.

ولتحقيق هذا الالتزام الصادر بإرادة الصادر بإرادة منفردة،ينبغي أن تكون هناك جائزة يلتزم الواعد بإعطائها للفائز بها، وليس من الضروري أن تكون هذه الجائزة مادية كالنقود يمكن أن تكون أدبية كما هو الشأن بالنسبة لإعطاء وسام أو شارة أو غيرها[15]

ويمكن أن تترتب عن الوعد بجائزة عدة أثار الوعد بحسب ما إذا كان الواعد قد حدد أجلا لإنجاز العمل المطلوب خلاله أولم يحدد أجلا لذلك.

·       أولا : أثار الوعد بجائزة عندما يكون له أجل محدد

إذا كان الواعد قد حدد أجلا اشترط أن يتم العمل خلاله،التزام الواعد بوعده بمعنى أنه ليس له العدول عنه قبل انقضاء هذا الأجل،وعلى هذا وضح المشرع في المادة 16 "...يفترض فيمن حدد أجلا لإنجاز ذلك الفعل أنه تنازل عن حقه في الرجوع عن وعده إلى انتهاء ذلك الأجل."

فإذا انقضى الأجل دون أن يقوم أحد بالعمل المطلوب انقضى التزام الواعد وإذا قام بعد ذلك شخص بهذا العمل فلا يلتزم الواعد بأداء الجائزة التي كان وعد بها وإنما يمكن أن يلتزم على أساس الإثراء بلا سبب إذا ما توافرت شروط الإثراء بلا سبب[16]

أما إذا قام أحد بالعمل المطلوب قبل انقضاء الأجل فإنه يصبح صاحب الحق في الجائزة،وهو يستحقها في كل حال سواء كان قام بالعمل بقصد الحصول على الجائزة أو لم يكن لديه هذا القصد،وسواء كان يعلم وقت قيامه بالعمل أم لم يكن يعلم باه[17]

·       ثانيا : أثار الوعد بجائزة عند عدم تحديد أجل له.

إذا كان الواعد لم يحدد أجل لإتمام فلا يجوز له الرجوع فيه بنفس العلانية التي توفرت في الوعد ما لم يكن أحد الأشخاص قد بدأ بالعمل ولم ينجزه بعد، ففي هذه الحالة يمنع على الواعد الرجوع على وعده طبقا  لمقتضيات المادة 16" لا يجوز الرجوع في الوعد بجائزة بعد الشروع في تنفيذ الفعل الموعود بالجائزة من أجله."

ولا يخلو الأمر في الحالة التي يكون فيها الواعد لم يحدد أجلا لإتمام العمل من وجود إحدى الفرضيات الثلاث التالية :

الفرضية الأولى : يرجع الواعد في الوعد ولم يكن هناك أحد قام بالعمل المطلوب أو بدأ به ففي هذه الفرضية يتحلل الواعد وعده نهائيا.

الفرضية الثانية : يرجع الواعد في الوعد ويكون هناك شخص قد أنجز العمل المطلوب،أو يكون قد بدأ فيه قبل الرجوع ففي هذه الفرضية لا يكون للرجوع أثر في استحقاق الجائزة لأن العمل قد ثم أو بدأ فيه في وقت كان فيه الواعد ملتزما بوعده،فيصبح من قام بالعمل دائنا بالجائزة بمجرد انجازه للعمل.

الفرضية الثالثة : لا يرجع الواعد في الوعد ويكون هناك شخص قد قام بالعمل المطلوب في مدة معقولة يجدي فيها القيام بهذا العمل ففي هذه الحالة يستحق هذا الشخص الجائزة ويشترط في هذه الفرضية أن يثم إنجاز العمل المطلوب في وقت يكون إنجازه فيه مجديا[18]

وتنبغي الإشارة في الأخير إلى مقتضيات الفصل 17 من قانون الالتزامات والعقود الذي تطرق لحالة انجاز العمل الوعود عليه بالجائزة من قبل عدة أشخاص أو اشتراك عدة أشخاص في إنجازه حيت نص هذا  الفصل على ما يلي إذا أنجز أشخاص متعددون في وقت واحد الفعل الموعود بالجائزة من أجل قسمت الجائزة بينهم، وإذا أنجزوه في أوقات مختلفة،كانت الجائزة لأسبقهم تاريخا وإذا اشترك عدة أشخاص في إنجاز الفعل كل منهم بقدر فيه قسمت عليهم الجائزة بنفس النسبة فإذا كانت لا تقبل القسمة ولكنها تقبل البيع،قسم تمنها على مستحقيها، وإذا كانت الجائزة شيأ له قيمة في السوق أو شيأ لا يمكن منحه وفقا لنص الوعد إلا لشخص واحد، كان المرجع حينئذ للقرعة.

الفقرة الثانية : الإيجاب الملزم

   المقصود بالإيجاب هو التعبير البات عن الإرادة الصادرة من الموجب والموجه إلى طرف أخر محدد كان أو غير محدد بهدف إبرام عقد معين [19]وقد عرفه الأستاد عبد الرحمان الشرقاوي بأنه ذلك التعبير الإرادي الجدي والبات الصادر عن موجهه بقصد الارتباط بالتعاقد [20]وقد عرفه أيضا الأستاد مأمون الكز بري على أن الإيجاب هو التعبير      عن إرادة شخص يعرض على غيره أن يتعاقد معه [21]وفي هذا الصدد يمكن أن  نتساءل عن القوة الإلزامية لإيجاب بالرجوع إلى الفصل 26 من قانون الالتزامات والعقود،نجده ينص على  أنه"يجوز الرجوع في الإيجاب مادام العقد لم يتم بالقبول أو بالشروع في تنفيذه من الطرف الأخر." إلا أن الأخذ بهذا المبدأ على إطلاقه من شأنه أن يساهم في عدم استقرار المعاملات التي يرمي إليها المشرع بأن أي شخص يريد أن يمضي في التعاقد على أساس الإيجاب الموجه إليه سيكون مهددا بإمكانية تراجع الموجب من إجابه طالما لم يقترن به أجل للقبول [22] إلا أن المشرع  تدخل من أجل وضع قوة ملزمة للإيجاب  فإنه ينبغي التمييز بين حالتين يكون فيهما الإيجاب ملزما.

·       الحالة الأولى : إذا كان الإيجاب مقترنا بأجل للقبول حيث يكون على الموجب البقاء على إيجابه إلا أن ينقضي هذا الأجل، وسواء تمت المعاملة بين حاضرين أو بين غائبين وقد نص الفصل 29 من قانون الالتزامات والعقود"من تقدم بإيجاب مع تحديد أجل للقبول،بقي ملتزما تجاه الطرف الأخر إلى انصرام هذا الأجل. ويتحلل من إيجابه إذا لم يصله رد بالقبول خلال الأجل المحدد."[23]  أي بمعنى  أن المشرع قيد الموجب في هذه الحالة بالبقاء على إيجابه إلى حين انصرام الأجل.

·       الحالة الثانية : عدم اقتران الإيجاب بميعاد معين.

على عكس الحلة الأولى التي ألزم فيها المشرع الموجب بالبقاء على التزامه حتى انصرام المدة المحددة لإيجاب فإن عدم اقتران الإيجاب بميعاد معين لابد من التمييز بين الإيجاب الذي يقع بين حاضرين وذلك الذي يتم بين غائبين[24]  فبخصوص الإيجاب الذي يقع بين حاضرين فالمشرع كان واضحا في هذه النقطة،حيث على نص على  سقوط الإيجاب على الفور في الحالة التي لم يتم قبوله على الحال وذلك من خلال الفصل 23 من قانون الالتزامات والعقود،وقد جاء في هذا الفصل أن" الإيجاب الموجه لشخص حاضر، من غير تحديد ميعاد، يعتبر كأن لم يكن إذا لم يقبل على الفور من الطرف الأخر.ويسري هذا الحكم عل الإيجاب المقدم من شخص إلى أخر بطريقة التليفون." وما يلاحظ من خلال هذا الفصل أن المشرع أنزل  الإيجاب الموجه عن طريق الهاتف منزلة الإيجاب الموجه داخل مجلس العقد (الإيجاب الموجه إلى شخص حاضر في مجلس العقد)

أما بخصوص الإيجاب الذي يقع بين غائبين غير مقترن بميعاد محدد،أن الموجب بالإيجاب يبقى ملتزما إلى حين مرور الوقت المناسب لوصول رد المرسل إليه داخل أجل معقول.

وهذا يعتبر ميعاد ضمني حيث يستشف منه أنه ميعاد ضمني فقد يظهر من الظروف أن الموجب أراد أن يترك وقتا معقولا للطرف الأخر حتى يفكر في الأمر، أو يستكمل المعلومات التي تنقصه [25] وفي هذه الحالة على الموجب أن يبقى على إيجابه وعدم العدول عنه داخل مدة معقولة، وهذه المدة في حالة نزاع قضائي تبقى خاضعة للسلطة التقديرية للقاضي.

 

خاتمة:

وتأسيسا على ما سبق نستنتج  أن الإرادة المنفردة يمكن أن تكون مصدرا للآثار قانونية متعددة،  إلا أن الخلاف ينحصر فيما إذا كانت الإرادة المنفردة لوحدها تستطيع أن تنشأ الالتزام، أو حقا مثل ما يستطيع العقد الذي يتكون من اجتماع إرادتين، وذلك من خلال الرجوع إلى أن بعض المدارس التي كانت ترفض بأن تكون الإرادة المنفردة مصدرا عاما للالتزام، لم يعد لها محل بعد تعديل بعض التشريعات القديمة لنصوصها وقوانينها، أو بعد صدور بعض التقنيات الحديثة المتضمنة لحالات معينة من الالتزامات التي تشأ  بها الإرادة المنفردة مثل الوعد بجائزة ،والإيجاب الملزم، وغيرها

وفي هذا الإطار اتخذ  المشرع المغربي موقفا وسطا بين هذين الاتجاهين، فهو  لم ينكر دور العقد في نظرية الالتزام، كما أنه لم يغفل أيضا دور الإرادة المنفردة في سد احتياجات اجتماعية لم يسدها العقد، ومن ثم جعل للالتزام أساسين هامين أساس أصلي وهو العقد وأساس ثانوي وهو الإرادة المنفردة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

لائحة المراجع :

v فواز صالح : الإرادة المنفردة بوصفها مصدر الالتزام،مجلة جامعة دمشق العلوم القانونية والاقتصادية العدد الأول 2012 .

v عبد الرحمان الشرقاوي :القانون المدني،الجزء الأول،التصرف القانوني الطبعة الثالثة 2015.

v مأمون الكزبري : نظرية الالتزامات الجزء الأول الطبعة الثانية،بيروت.

v الفصايلي الطيب : النظرية العامة للالتزام، مصادر الالتزام،الجزء الأول مطبعة النجاح الجديدة 1996.

v زيد قدري الترجمان : المصادر الإرادية للالتزام وفق قانون الالتزامات والعقود، الطبعة 2007.

v مصطفى حتيتي : الوجيز في النظرية العامة للالتزامات (المصادر الإرادية)الطبعة الثانية 2011.

v عبد الرزاق أحمد السنهوري : الموجز في النظرية العامة للالتزامات والعقود في القانون المدني المصري، المجمع العلمي العربي الإسلامي منشورات محمد الراية ص ب : 7833- بيروت لبنان.

 


[1] -  فواز صالح،الإرادة المنفردة بوصفها مصدر للالتزام مجلة جامعة دمشق العلوم القانونية والإقتصادية العدد الأول 2012 ص 158.

[2] - فواز صالح،مرجع سابق ص 159.

[3] - د. عبد الرحمان الشرقاوي،القانون المدني،الجزء الأول،التصرف القانوني الطبعة الثالثة 2015 ص 305.

[4] -  د.مأمون الكزبري.نظرية الالتزامات الجزء الأول الطبعة الثانية بيروت 314.315.

[5] -  عبد الرحمان الشرقاوي،مرجع سابق ص 352.

[6] -  عبد الرحمان الشرقاوي،مرجع سابق ص352.

[7] -  عبد الرحمان الشرقاوي،مرجع سابق ص 353.

[8] -  عبد الرحمان الشرقاوي،مرجع سابق ص 353.

[9] -  مأمون الكز بري،مرجع سابق ص318.

[10] -  د.الفصايلي الطيب، النظرية العامة للالتزام الجزء الأول،مطبعة النجاح الجديدة الإيداع القانوني 1996 ص 185.

[11] -  مأمون الكزبري،مرجع سابق  ص 319.

[12] - عبد الرحمان الشرقاوي، مرجع سابق ص 357.

[13] -  الفصايلي الطيب، مرجع سابق ص 187.

[14] -  مأمون الكز بري، مرجع سابق ص 321.

[15] - عبد الرحمان الشرقاوي، مرجع سابق ص359.

[16]  - زيد قدري الترجمان، المصادر الإرادية للالتزام،وفق قانون الالتزامات والعقود،طبعة 2007 ص 294.

[17] -- مأمون الكز بري، مرجع سابق ص 333.

[18] - مأمون الكزبري،مرجع سابق ص 334.

[19] - مصطفى حتيتي،الوجيز في النظرية العامة للالتزامات (المصادر الإرادية) طبعة 2011 ص 42.

[20] - عبد الرحمان الشرقاوي، مرجع سابق ص 354.

[21] - مأمون الكزبري، مرجع سابق ص 54.

[22] - مصطفى حتيتي، مرجع سابق ص 45.

[23] - الفصل 29 من قانون الالتزامات والعقود.

[24] - عبد الرحمان الشرقاوي، مرجع سابق ص 354.

[25] - عبد الرزاق أحمد السنهوري، الموجز في النظرية العامة للالتزمات والعقود في القانون المدني المصري، ص 66.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال